عبد الصبور بدر يكتب: فتاة حديقة الأزهر

عبد الصبور بدر
عبد الصبور بدر

منذ سنوات قابلت فتاة تشبه الفراشة تجلس بمفردها على أريكة حجرية في حديقة الأزهر، تضع بجانبها لافتة من الورق تقول فيها «احك لي قصتك وأعطيك جنيها»، اقتربت منها، وجلست بجانبها لدقائق، حكيت لها قصة، وحصلت في المقابل على الجنيه، ولكني لم أتركها قبل أن أسألها: هل نحن في حاجة ماسة إلى من يسمعنا؟.. وأجابت «نعم».. وقلت لها: ماذا ستفعلين بمخزون الحكايات التي يرويها عليك الناس؟.. وقالت «لا شئ»!
سألت نفسي بعد أن ابتعدت عنها: لماذا لم تفكر الفتاة في استغلال إنصاتها، وتقوم بتأليف كتاب يحتوي على قصص مختلفة لمجموعة من البشر قدر لهم أن يجتمعوا بالصدفة معا في مكان واحد لمدة ساعات قليلة؟.. لكني وجدت أن كلمة "استغلال" سخيفة ومبتذلة وقاسية، فصرفت السؤال عن ذهني، لكن فتاة حديقة الأزهر ظلت عالقة في تفكيري.
شئ رائع أن تحكي جانب من حياتك – بدون مونتاج - إلى شخص لا تعرفه، ولن تلتقي به مجددا، ولن يخبر أحدا بما قلته، والأهم أنه لن يعايرك به، أويستخدم لحظة الضعف في يوم من الأيام كسلاح لإذلالك.
جعلتني فتاة حديقة الأزهر أكتشف أن الحديث إلى الغرباء آمن، وبلا عواقب، وعلاج فعال – بدون أعراض جانبية - من أمراض الكتمان الخطيرة، إضافة إلى أنه يوفر ثمن طبيب نفسي، لمن لا يملك المال. 
كثيرا ما أجلس في وسائل المواصلات وأصادف أشخاصا مهمومين، كل منهم يبحث عن أُذن تصغي إليه ويلقي فيها حمولته الثقيلة، عشرات المرات يفاجئني أحدهم بفتح حوار معي من طرف واحد، هو يحكي عن حاله ومحتاله وأنا أسمع، هو يشكو معاناته وأنا أتعاطف معه بهز رأسي، وأقول له كلمة تجبر بخاطره، وكلما لاحظ أني أهتم بما يقول، يشعر بالسعادة، وكأنني أعطيه مالا.  

ليس كل من يجلس إلى جوارك في وسائل المواصلات، ويمد عينيه إلى شاشة هاتفك، ويتابع منشوراتك، ويراقب تعليقاتك، ويتلصص على محادثاتك الشخصية على "الواتس آب"، ويتدخل في الحوار بكلمة، شخصا فضوليا، قد يكون إنسانا وحيدا يعاني العزلة والتهميش والاحتقار، ويجس نبض روحك ليبدأ معك الكلام، لأن حياته خالية من المنصتين. 
إذا لم تغلق الباب في وجهه، وسمحت له بالتعبير عن نفسه، سوف يمنحك الثقة، ويتعامل معك وكأنه يعرفك من سنين طويلة، ويبوح لك بأسراره الخاصة، وحين تأتي محطتك وتهم بالنزول سيصافحك بحميمية، وكأنه يودع صديقا قديما لن يراه مرة أخرى، قبل أن يطويه الصمت من جديد.